صلاح رشاد .. يكتب: السفاح يحسم ولاية العهد (25)
كان أبو العباس السفاح أول خليفة عباسي له من لقبه نصيب بمعناه الجميل والقبيح، فقد كان سفاكا للدماء لأنه لم يصل إلي السلطة إلا بأنهار من الدماء، وكان أيضا جوادا كثير العطاء، قال له إبن عمه عبدالله بن الحسن العلوي: يا أمير المؤمنين سمعت عن الألف ألف ولم أرها (يقصد المليون).
فقال له السفاح : هي لك معجلة يا أبا محمد وأعطاه ألف ألف درهم.
وفي خطبته الأولي علي منبر الكوفة قال السفاح لأهلها: لقد زدت في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح.
وكان السفاح مهموما بولاية العهد رغم أنه كان في عنفوان شبابه، فقد تولي الخلافة وهو في الثامنة والعشرين من عمره، فهل كان يشعر أن عمره قصير لإصابته بالجدري؟ ربما .. لذلك كان حريصا علي أن يحسم أمر ولاية العهد بسرعة .. وكان قد وعد أي رجل من أهل بيته يأتي برأس الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد بأن يمنحه ولاية العهد.
والمتتبع لنشأة الدولة العباسية، يجد أنها قامت علي كتفي رجلين جبارين مرعبين دمويين، هما أبو مسلم الخراساني وعبد الله بن علي العباسي، ووفقا للعهد الذي قطعه السفاح علي نفسه، كان المنطقي أن يجعل ولاية العهد لعمه عبد الله لأنه هو الذي هزم الأمويين في معركة الزاب الفاصلة وهو من أرسل أخاه صالحا بجيش إلي مصر يأتيه برأس مروان.
ولذلك كان السفاح في حيرة من أمره، بين عمه عبد الله وأخيه الأكبر أبي جعفر، وقد وجد السفاح ضالته في جعدة بن هبيرة المخزومي، والغريب والعجيب أن جعدة كان أحد وزراء مروان بن محمد، آخر خليفة أموي، و لما ظهر أمر أبي العباس السفاح صار في عداد أصحابه وخواصه الذين اتخذهم، وفي أحد الأيام كان حاضراً لمجلس السفاح ورأسُ مروان بين يديه، فالتفت السفاح إلى أصحابه فقال: أيكم يعرف هذا؟.
ونترك جعدة يروي بنفسه هذا الموقف، فيقول: قلت أنا أعرفه، هذا رأس أبي عبد اللّه مروان بن محمد، خليفتنا بالأمس رضي اللّه عنه، قال: فحدقت اليَّ الشيعة العباسية فأخذتني بأبصارها، فقام أبو العباس وقد تغير لونه غيظاً علي، وانصرفْتُ وأنا نادم على ما كان مِني.
فقلت: هذه زلة واللّه لا تُستقال ولا ينساها القوم أبداً، فأتيت منزلي، فلم أزل باقي يومي أعهد وأوصي (يعني أيقن أنهم قاتلوه)، فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت للصلاة، وكان أبو العباس إذا هَم بأمر بعث فيه ليلاً.
فلم أزل ساهراً حتى أصبحت، فلما أصبحت ركبت بغلتي واستعرضت بقلبي إلى مَنْ أذهب، فلم أجد أحداً أوْلى من سليمان بن خالد مولى بني زُهْرَةَ، وكانت له عند أبي العباس منزلة عظيمة، فأتيته، فقلت: هل ذكرني أمير المؤمنين بالأمس، فقال: نعم، جرى ذكرك، فقال: هو ابن أختنا، وَفّي لصاحبه، ونحن إن أوليناه خيراً كان لنا أشْكَرَ، فشكرت ذلك له، وجزيته خيراً، وانصرفت.
( جعدة بن هبيرة من ذرية جعدة بن هبيرة المخزومي الذي كانت أمه فاختة بنت أبي طالب الشهيرة بأم هانئ أخت علي وجعفر وعقيل رضي الله عنهم، لذلك قال السفاح إن جعدة ابن اختنا).
ومازال الحديث لجعدة فقال: فلم أزل آتي أبا العباس ولا أرى إلا خيراً، وبينما أنا ذات يوم عنده وقد تزايدت حالي عنده فنهض الناس ونهضتُ، فقال لي أبو العباس: على رِسْلِكَ يا ابن هُبَيْرة، اجلس، إني ذاكر لك أمراً فلا يخرجَنَّ من رأسك إلى أحَدٍ من الناس، ثم قال: قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر وولاية العهد لمن قَتَلَ مروان، وعمي عبد اللّه هو الذي قتله، لأن ذلك كان بجيشه وأصحابه، وأخي أبو جعفر- مع فضله وعلمه وسنه وإيثاره لأمر الله- كيف يخرج الأمر عنه، فقلت: أصلح اللهّ أمير المؤمنين لا أشير عليك، ولكني أحدثك حديثاً تعتبر به، فقال: هاته، فقلت: كنا مع مَسْلمة بن عبد الملك أثناء حصاره للقسطنطينية في خلافة أخيه سليمان، إذ ورد عليه كتاب عمر بن عبد العزيز بنعي سليمان بن عبد الملك ومصير الأمر إليه، فبعث إلى فدخلتً عليه، فرمى بالكتاب الي فقرأته، ثم اندفع يبكي، فقلت: أصلح اللّه الأمير لا تَبْكِ على موت أخيك، ولكن ابْكِ على خروج الخلافة من ولد أبيك إلى ولد عمك، فبكى حتى اخضلتْ (إبتلت) لحيته، قال: فلما فرغت من حديثي قال لي أبو العباس: حسبك قد فهمت، ثم قال: إذا شئت فانهض، وهكذا كانت كلمات جعدة حاسمة في أمر ولاية العهد الذي جعله السفاح لأخيه ابي جعفر وليس لعمه عبد الله بن علي.
لكن كيف تم هذا الأمر ؟ .. نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله